الأربعاء، ٢١ أيلول ٢٠١١

مخشخش من دون خشخاشة!


مخشخش من دون خشخاشة!
(محاولة صياغة مقدمة لبيان نصب خيمة احتجاج أمام غرفة أولادي)

يُجهِز مجد الصغير، الوافد إلى عالمي/نا في "جمعة الرحيل" قبل شهور سبعة، على مئتي ملل من الحليب الاصطناعي المحلول، ثم يتجشّأ جشأة تليق بسائق شاحنة كرع للتو نصف ليتر من الجعة الباردة في فيلم أمريكي آخر. "حمدِلاَّ" التلقائية تعلن انفراج أزمة الجوع الصارخ، لنتفرغ إلى هواية صغيري الجديدة – وهي محاولة الانتحار!

* * *

تعريف 1: الطفل هو كائن حي صغير ونامٍ بإطراد، يحاول الانتحار بشتى الوسائل المتاحة، وتستمر هذه المحاولات حتى بلوغ هذا الكائن سن الوعي لمعنى الخطر (من 3 أعوام إلى 25 عامًا – يتعلق بمتغيرات بيئية وثقافية عديدة).
تعريف 2: الوالد هو كائن حي وقع ضحية السيرورة البشرية وإلحاح أمه/حماته والكلام الرومانسي الشائع عن "السعادة الحقيقية"، وورّط نفسه في مشروع منهك لا نهائي. من وظائف الوالد منع الطفل عن إزهاق روحه، وذلك من خلال اتباع مختلف طرق الوقاية، وأبرزها: تقمس دور الحاجز البشري، الصراخ، صك الأسنان وإظهار الغضب، ترديد كلمة "ممنوع" 20 ألف مرة في الساعة، إغماض العينين وانتظار "البوم.. آخ" (هذه أفشل طريقة)، أو الانتقال للسكن في بيت بدون زوايا حادة ومبني من مادة مطاطية قابلة للتنظيف...
* * *



بعد "حمدلاّ" اللا إرادية، يترك صغيري قشطة (زبدة الحليب/ بالعربي "شمينت") غنية بالفيتامينات والنيوكليوتيدات والألياف الغذائية على بلوزتي الجديدة، فألعن والده (هنا توبخني أخته "الكبيرة" الصغيرة: عيب نؤول عَص!) وأنزله على الأرض لأتمكن من تنظيف نفسي مما جنيته عليها. وبينما أنا منشغل في تنظيف مسرح الجريمة بواسطة المناديل الرطبة المعطرة (من أهم وأجدى اختراعات العصر)، استطاع الزاحف الجاني أن يقطع الصالون بسرعة 25 خطرا/الثانية وصولا إلى المزهرية الكبيرة المنسية في الزاوية، وهي مزهرية أثرية يرجع تاريخ صناعتها إلى العام 2 ق.م.ط.أ (قبل ميلاد طفلتي الأولى). المهم، هكذا بلمح البصر (والأصح بدونه) وصل الصغير إلى المزهرية ثقيلة الوزن وأوقعها على رأسه اليابس، فانفجر هو بالبكاء جراء الضربة والصدمة النفسية. لم يكن معي وقتًا لأشرح له بلغتي أو بلغته أن ثمة قانون يدعى الجاذبية اكتُشف بفعل سقوط تفاحة، والحمد للآلهة أنها لم تكن مزهرية. هرعت إلى الباكي، انتشلته، تفحصته بسرعة الخبير العارف وتأكدت من أن كل شيء في مكانه، ثم أخفيت معالم الحادثة وكأن شيئا لم يكن، ذلك أن أم الصارخ على كتفي ستدخل إلى البيت في كل لحظة. يمّاااا!
* * *
تعريف 3: الأم مدرسة؛ قم بواجباتك تجاهها، والتزم بالحضور والغياب، تنجح!


* * *

(بعد لحظات)
-      مالُه ببكي؟ وقع؟ خبط راسُه؟
-      لا.. هواي بسيطة، ضرب حالُه بالخشخاشة.
-      خشخاشة؟!! إحنا فش عنا خشخاشة!
* * *
هوامش:
أثناء حدوث الحادثة أعلاه، كان صديقي من الصفحة العاشرة يرتشف الكفيئين وينفث النيكوتين في مقهى على الرصيف، وينعم بالفلاس – آه، كم أشتاق للفلاس * كتب النص أعلاه على امتداد مساحة زمنية ليلية متقطعة جدا، إذا تخلله قيام الكاتب بتلبية نداءات واستغاثات تتراواح بين "بدي أشرب" و"بديش أنام" و "واع واع" * كخدمة للمجتمع، يهدف النص إلى الرد على المروّجين لأفكار "السعادة الحقيقية" و"الأولاد نعمة" و"فش أحلى منهن" (الخ) من خلال تقديم لمحة بسيطة من واقع معاش نحو إظهار الوجه الآخر والحقيقي للعملة، وممّا فيه: بكاء، حفاض، حوادث، أمراض، حساسية، حفاض، حضانات، حاضنات، رفض للأكل، حفاض، صراع على البمبا، تلفزيون عالق على قنوات الأطفال (أنا أكره "آل ماع")، قلنا حفاض؟! 

* * *

غدًا، في السادسة صباحًا، عندما سيبتسم لي صغيراي، سوف أسحب كل كلامي الفارغ الذي جاء أعلاه!


   

ليش؟!


لــــيــــش؟!


رازي نجار

على الضفة الثانية من المفاجأة التي تنتظرني في آخر الفقرة الثالثة، وقفت مع ابنتي، التي أربيها وتعيد تربيتي كل يوم، على الرصيف المرقع المحاذي لبيت "تيتا". كانت الخطة أن نقطع الشارع باتجاه حظيرة الحيوانات مساهمة مني في جسر الهوة بينها وبين الطبيعة، والتي فرضتها عليها بعد اتخذت من المدينة بيتا لي ولها – ذلك أن هناك في المدينة، ليس "البقر" سوى فعالية تربوية في الحضانة، أو تعليل يصدر عني كلّما استيقظَت فزعًا على دوي انفجار مفرقعات تعليلية تقلق منام الشق العربي من المدينة الساكنة على البحر؛ "ليش الصاروخ بابا؟" تسألني صاحبة الـ"ليش" اللا نهائي، فأجيبها "بقر بابا"، فتنام.. بعد ساعة!

نعود إلى الرصيف المحفّر، حيث اخترت أن أنتهز الزيارة إلى الجذور وأن أعلمها درسًا في قطع الشارع، في صيغته القروية؛ فإضافة إلى "ننظر إلى اليمين، ثم إلى اليسار" التي تعرفها (لا أعرف من أين!)، هنا "ننظر إلى الأسفل"، ثم استبقتُ الـ"ليش" المتوقع بجواب يشرح لها بلغة مبسطة التراكمات الاجتماعية والنكبوية التي أدت إلى عزوف بعض أصحاب "بيوت الحجر" عن الارتباط بمشروع المجاري البلدي – وليس من منطلقات الحفاظ على جودة مياه البحر المتوسط. "أراااف" قالت ضاحكة، وقطعنا الشارع.

"هذا ديك، وهذه دجاجة (طبعًا، لا أكلمها بالعربي الفصيح)، وهذا خروف، وهذا كلب جعاري، وهذه بقرة، وهذا حصان، وهذا ابن الحصان. كيف صوت الحصان؟.. وهذه شجرة ليمون، وهذه رمانة، وهذه شجرة مريخوانا، وهذه دالية عنب"، مريخوانا؟!!

أخذت نفسًا (هواء، ونتن أيضًا، مما اقتضى التنويه)، ثم بحلقت أشد بحلقة بالنبتة الخضراء اليانعة اليافعة المتمردة الثائرة الخارجة عن القانون الرسمي والأعراف الاجتماعية المعلنة، لأتأكّد من صحة ما أرى وأشم. لم تكن شتلة، كما تُدعى هذه النبتة عادة، بل كانت شجرة تجاوز ارتفاعها طولي الفعلي (1.74 م) وحتى طولي المعنوي (1.91 م)، شجرة بكل ما تحمل كلمة شجرة من براعم. 


ها أنا إذا، واقف مع طفلتي أمام جناية قانونية تزداد العقوبة عليها كلما ازداد حجمها ونموّها. عقلي المهلوس بدأ بكتابة السيناريو المحتمل: صاحب هذه المشروع الزراعي لن يستطيع أن يفلت من مسؤوليته عن ظهور نبتة القنب في أرضه بادعاء أن بذورها موجودة في علف الطيور (حقيقة علمية) وبالتالي هي إرادة الطبيعة – طبعا إذا استطاع أن يثبت للمحقق الأزرق-أبيض أن الطبيعة، جل جلالها، قادرة على بناء سياج معدني دائري الشكل يحيط بالنبتة، وفزاعة من قش تبعد عنها بعض الطيور الكسولة الراغبة في التحليق "بالهاي" مجازًا!


تسألني الصغيرة المتململة بجانبي والتي انتبهت بفطنتها الحادة إلى أن الشجرة اياها سرقتني عنها "إيش هاي بابا؟". أجيب بأنها لعمّو الذي يسكن هناك. "ليش؟" المتوقعة أخرجت مني جوابًا مبهمًا؛ "عشان يتمسك بالسعادة بابا".
-      ليش؟
-      لأنُّه فش عندو ولاد!

هامش ضروري:
أظهر بحث نشر في عدد تموز 2008 من مجلة Pediatrics العلمية، وشارك فيه باحثون من كلية الطب في يوستون وباحثون من جامعة لندن، أن ابتسامة الطفل تحرك في دماغ الوالدين مناطق تنشط أثناء الإدمان على المخدرات، وتمنحهم نفس الإحساس بالنشوة.