السحّ الدحّ امبو!
عقرب الدقائق ذاهب بكسل شتوي باتجاه الساعة الثالثة بعد انتصاف الليل، وأنا جالس أمام اللابتوب أحاول أن أقاوم النعاس؛ أطرد النوم وهو مطارِد، فهذا وقتي الذي لي أنا وحدي. تمر الدقائق وأنا صافن ودماغي صافٍ لا يقدح شررا. لا شيء، وما تلك الصفحة البيضاء المطروحة أمامي على الشاشة سوا مرآة . ما العمل؟ طبعا الهروب إلى ملهية العصر، إلى اليوتيوب، إلى أهداف ميسي التي أشاهدها للمرة المليون، إلى أغاني منتشلة من قاع الذاكرة؛ ما لي ولعصام رجّي في ساعة كهذه؟ وماذا سأقول لزوجتي إذا استيقظت الآن وضبطتني متلبسا أشاهد أبو الزوز وقد "جنّ جنونه" في عرس آخر؟!
خواء المعدة ينتصر على الخواء الفكري، فأنهض وأمشي الهوينا باتجاه البرّاد. مباشرةً أذهب إلى القسم العلوي قاصدًا تِركة صيفٍ يبدو حلما بعيد المنال من خلف هذا البرد القارس للبدن والميزانية (حساب التدفئة الكهربيّ شلّحنا أواعينا). أتناول علبة الـ"كريميسيمو" (عذرًا على الدعاية) واعدًا روحي قبل جسدي ببوظة مدعّمة بحبيبات شوكولاطة بلجيكية تخبئ في ثناياها قطع من الفستق وجوز البقان، ممممممم. أفتح العلبة، فتصعقني لفافات الملفوف المحشي الجاهز للطهي والقادم من قلق حماتي على نموّ حفيدتها – ما أصعب أن يكون الإنسان عربيا في الساعة الثالثة فجرا. لا أستسلم، حتمًا سأجد شيئًا جديرا بالالتهام في هذا المكان البارد. عبثًا أحاول، فأنسحب من مهمتي الفاشلة وجعبتي خالية اللهم إلا من سؤال أدخلني في لخمة ما بعدها لخمة؛ لماذا تحتوي ثلاجة بيتنا الصغير على ثلاث عشرة طبخة بامية؟! كيف وصلنا إلى هذا الفحش الباموي وملايين البشر محرومة من لقمة بامية تسند معدها؟ ثم أنني أكره البامية من كل بطني! لو كنت كاتبًا إيطاليًا كنت سأقفل هذه الفقرة بعبارة "بابَميّااا" الاندهاشية.. لو كنت!
لكنني لست طليانيًا، وما أنا إلا عربي نعسان يحترف حرق وقت النوم الثمين.
مستسلمًا للنداء الخافت في داخلي ("خلص انطفيت")، وضعت رأسي على الوسادة متذكرا أن النوم نعمة؛ إني أتنفس تحت اللحاف، إني أغرق أغرق أغرق، أنا الآن أغوص في مياه دافئة عذبة، تيارات سلسة تسري في جسدي المنكمش، خدر إلهي أخشى أن ينتهي، وصوت آت من بعيد، صوت يعلو تدريجيا، أو أنه يرفعني تدريجيا من عز النوم إلى سطح الواقع الذي يوبخني "قوم قوم، شكلُه لازم نطلع على المستشفى"… بعد ساعات وُلد مجد.
كان ذلك قبل سنة. خلال هذا العام الخاص جدًا، حقق الزاحف النامي نبوءة "السح الدح" العدوية، وأثبت أنه "طالع لأبوه" فيما يتعلق بإهدار وقت النوم. خلال هذا العام الخاص جدًا أطلق في فضاء بيتنا الصاحي عدد هائل من التهاليل الفيروزية المهدّدة المتوعّدة التي لو أُخذ بها لشهدنا هولوكست حمائميًا كارثيًا، لكن – يا لحسن الشنص - كنا نضحك على الحمام، لينام. ولم...
خلاصة
1. بابا، كل سنة وإنت سالم، وبالليل منيِّم ونايم.
2. عن "ويكيبيديا" رضي الله عنها قالت: "الإنسان ينام ثلث عمره تقريبا".
3. للتوضيح أضيف على 2: "هذا الثلث هو الذي تعيشه قبل أن تصبح أبًا/أمًا" .