الأربعاء، ١٠ حزيران ٢٠٠٩

على أعتاب "ليلى" جديدة !

على أعتاب "ليلى" جديدة !
فراس خطيب



لا شيء يتغيّر في هذا المكان سوى الفصول. هواء بارد يطرق النافذة، وصيف يغادر من النافذة الأخرى. لا وقت للحديث عن صفحات طويت، ولا عن أخرى فتحت. فمنذ إقلاعنا عن مغادرة الحانات عند الصباح، صار الصيف يغادر الديار ذليلاً، تقليديًا إلى حد الملل، لا يأخذ معه سوى لون السماء وقناديل بحر تتبعه لتذوب في بلادٍ أخرى.



هذه هي الحال في تلك الليلة التي سبقت سفري بشهرٍ ونيّف: صمت ووقوع في صلب التساؤلات. كنت أحدّق في حبر الصحيفة تارةً وأهرب مع الصيف المغادر تارةً أخرى. أخترت ليلتها أن أكون وحدي، أن أغلق عناوين الجريدة بعيدًا عن الوجوه، كي لا أحمّل الآخرين مسؤولية غضبي وأنا في انتظار الغياب.


رنين هاتف يفرض نفسه، فهو الصوت الأكثر مكروهًا في مثل هذا الوقت، كل الذين أحبّهم يعرفون أني "لا أتكلم" في مثل هذه الليالي. من سيكون؟ ربما سياسي يخاف من عناوين الجمعة، أو فتاة بعثت بخاطرةٍ وحلمت بأنَّها على الصفحة الأولى. ربما نفس الشخص الذي يتصل في نفس الساعة في كل أسبوع ليطلب نفس الطلب غير الملبّى منذ سنوات. لكنَّ الأمر كان مغايرًا، هذه المرة كان رازي، الصديق الخارج عن هذه الدائرة المذكورة. كان دراماتيكيًا إلى حد ارتجاف صوته، فصاحب المقدّمات الأزلية، يبدأ حديثه من النهاية: "فاضي؟ أنا في تل أبيب وإيفا بدها تخلف."لا حاجة لتفكيك الرموز، وأعلنت حالة الطوارئ. فنحن على أعتاب"ليلى" جديدة.


كان عليَّ أن "أنقذ" إيفا. وقد "أبصرت طريقًا قدامي فمشيت" (بوحيٍ من إليا أبو ماضي). عشرون ألف سيناريو راودوني من بيتي المنسي في جنوب حيفا إلى وسط المدينة. لم أفكّر بحاضري، ولم أرصد ما إذا كان في الأفق قمر اصطناعي يصطادني في جنون سيري. كنت أتخيل إيفا مستلقية على بلاط البيت الجديد في "عباس"، تصرخ ألمًا من اندفاع ليلى نحو الحياة، والجيران ينظرون إليها من نوافذهم ولا يقتربون، يسمعون صوتها ولا يرونها، معتقدين أنَّها "مشكلة عائلية". فهم معذورون، فلا أحد منهم يعرف أنَّ إيفا، وعلى مدار شهورها التسعة، غرقت في كرسي التلفزيون (نعم، هناك اختراع كهذا و ثمنه الشيء الفلاني). وأحد منهم لا يعرف عن ابتسامتها العريضة حين كانت تطلب في أكثر الأوقات غير المتوقعة "رازي، حبيبي إعملي سلطة" (أو باستا. أي فرق؟ كلاهما من دون لحمة).


وصلت إلى الشارع. مكان للوقوف في عباس؟ أجننت؟ فكرت بترك السيارة والقفز الى بيت رازي لانقاذ إيفا (بوحي من اقتل بيل 2)، لكن السيناريوهات اختفت عندما نزلت إيفا دون توقع، تمشي الهوينة باتجاه سيارتي التي أغلقت عباس بوقفة غبية. فتحت الباب وقالت "هاي، شو الوضع؟"... ليس هذا ما توقعته.صدمت. فقد علّمتنا الأفلام المصرية أنّ المرأة الحامل لا تتحدث بل تصرخ، لتتنقل الكاميرا بينها وبين زوجها المنتظر خارجًا (لماذا لا يدخل؟!)، وينتهي صراخ المرأة مع بكاء الطفل القادم، لتخرج الممرضة وتقول "مبروك، الواد زي القمر"، وينتهي المشهد عندما يحمل الأب طفله المولود للتو، وعمره ثلاث دقائق (لكنه مستحم ويبدو إبن خمسة شهور ).





دخلنا إلى المستشفى، رائحة دواء وتوتر وعرب بجانب ماكنات الكولا. أعطتني إيفا ملفًا لونه أحمر، فيه الكثير من الرسوم البيانية عن ليلى القادمة. مضيت من ورائها مثل "محروس بتاع الوزير" (بوحيٍ من محروس بتاع الوزير)، وصعدت إلى الطابق الرابع، ودخلت إلى إحدى الغرف، وبدأت ترتيبات الـ "التشيك إنْ". سألتني السكرتيرة المغربية التي تصبغ شعرها بلون بولندي:


- في أي أسبوع هي؟
- أي أسبوع؟ هي في الشهر التاسع الآن،
- نعم، ولكن في أي أسبوع؟
- هل الأمر يقاس بالأسابيع؟ لا أعرف، من المفترض أن تكون في الشهر التاسع، أليس كذلك؟
- هل تسألني أنا؟ أنت زوجها عليك أن تعرف.
- أنا لست زوجها. أنا صديقها.
- ماذاااا؟؟؟
- لا تفهمينيي خطأ، أنا صديق زوجها، فهو في طريقه من تل أبيب... أتصل بي وأنا كنت في البيت...نسيت الهوية، هل تريدين منيّ هوية؟ لدي بطاقة صحافي. حتى هي نسيتها. ماذا تريدين مني؟َ
- لا أريد منك شيئًا. إذهب وإسألها في أي أسبوع هي.

العرب هم عشرون في المئة من سكان الرقعة العبرية، لكنّهم الأكثرية في اقسام الولادة، يشكلون حكومة دون منح "كاديما" الثلث المعطل. كانت إيفا في داخل القسم، وأنا طبعًا أسألها كل دقيقة، هل ينقصك شيئ؟ إلى أن وصل حماها وحماتها يضحكان ووصل رازي مبتسمًا ابتسامة هادئة، وطبعًا شكرني، كلّهم أثنوا على "طيبتي" وأنا أسجلّ ابتسامتي للتاريخ. بعد دقائق، شعرت بأنَّ حاجتي تقترب من الصفر. أي حاجة لي عندما يكون الأب والأم والجدّان، وجدّان آخران يقاومان الظلمة في طريقهما من الرامة إلى حيفا؟ تحولت من المنقذ "المغوار" إلى تفصيل صغير في ليلة كبيرة. مجرد "صديق لرازي وإيفا"، يقف مثل الأبله ويبتسم، لا حاجة له... حتى السكرتيرة المغربية، لم توجّه لي حديثًا كما اعتادت وصودر الملّف الأحمر مني بلطف. باركت سلفًا، ابتسمت، ولفني الطريق.


مضيت... هذه المرة أعرف إلى أين، إلى بيتي. كنت أتخيل ليلى قادمة هذه الليلة لتضفي رونقًا على تفاصيل الحياة. تخيلتها جميله، فيكفي خليط من جينات العائلة لتكون كذلك. رازي سيصبح أبًا؟! لقد مرّت سنوات منذ أن تعرفت إليه للمرة الأولى، قبل أن تضاء الألمانية. لم يهضمني ولم أهضمه، إلى أن تبادلنا السيجارة الأولى في ليلة شتوية في مكان ما، في زمنٍ كانت السجائر تسبق الحديث. تتفككت العقد، وعشنا من بعدها تضاريس الحياة، بحلوها ومرّها (بوحي من المسلسل الأردني "لازم أدافع عن حاكورة أبوي"!)

ليلى لن تقرأ حروفي هذه اليوم، لكنَّها حتمًا ستفعل عندما تكبر. لا أعرف ماذا سأكون أنا عندما تكبر هي. ربما مثل والديها منهمكًا في تقاليد الحياة المتعبة، أو سأكون كاتبًا اختار النزوح عن الاضواء يعشق الكحول ويغازل الورق. ربما أكون "صديق العائلة" الليبرالي لتهرب إليّ ليلى من "عقد" والديها: "عمو، أقنعهما، أريد السفر مع صاحبي الى تايلند وهما لا يقبلان، كلها شهر، شو هالعئد؟!"، أو ذلك المتخلف العالق في قريش "بابا، مش طايقة عمو، هاد واحد متخلف، شفت شو حكى؟ ". ربما سأكون غريبًا عن الجميع، من "المعارف" ليس إلا، التقيهم في حديقة أو عرس أو عشاء في زيانة، حين يقول لي رازي "تغيرت كثيرًا، عشرون عامًا يا رجل"، فتسأله ليلى من هذا؟ ليرد عليها: "كنا ذات يوم أصدقاء... هل تريدين فقع مع بصل؟!"... وربما لا أكون أصلاً.

ولكن يا عزيزتي ليلى، في الحالات كلها، لن يستطيع أحد انتزاع لقب الذي "أخذ أم ليلى إلى المستشفى"، لتشرقان أنت وهي... ذكرّيهم إنْ نسوّا.

وأخيرًا
كان عمرها بضعٌ وتسعون، لم تمش وسلّة الدواء إلى جانبها، كانت قوية الصوّت والبنية. عصامية دون أن تقرأ نوال السعداوي، ودون أن تغضب على تعامل روسو مع النساء. تلف سيجارة العربي بفن القدماء، وتدخن أينما حلّت، فهي لا تقرأ اللافتات.

كلما رأتني جدّتي،-وهي بالأصل جدة والدي- كانت تناديني من بين أطفال الحي، تناولني حبة من الموز وتقول: "لقد رافقت أمك عندما ولدتك في مستشفى نهاريا"، وتكشف لي أني أتيت إلى هذا العالم "خطأ"، وأن والديَّ لم يخططًا لقدومي أصلاً وتضحك... كانت تحكي قصة المطر على الطريق، وسائق التاكسي ومدينة الأضواء نهاريا التي زارتها لأول مرة عند ولادتي. كنت أبتسم عنوة، وانتظر نهاية القصة لأعود إلى اللعب، وكنت مستعدًا للتنازل عن الموزة أيضًا من أجل التحرير . كبرت أنا، وغابت جدتي عن القصة. وتراني اليوم، أنا الذي رفضت سماع قصتي، أنتظر ليلى كي تكبر، لأذكرها دائمًا بأني رافقت والدتها إلى المستشفى، على أمل ألا تمّل من حديثي، وأن تشتاق إلى القصة كما أشتاق اليها الآن...